Recent Posts

سجل الزوار

مؤسسة محمد السادس للتربية والتكوين

بصدد المقاربة عبر الكفايات ، نيكو هيرت.

بواسطة الأستاذ حميد هيمة بتاريخ الاثنين، 28 سبتمبر 2009 | 9/28/2009 12:59:00 م

هل نحتاج إلى عمال أكفاء أم إلى مواطنين نقديين ؟
على غرار بلدان أوربية عديدة، أقدمت الجماعة communauté الفرنسية ببلجيكا على مراجعة عميقة لبرامج مستويات التعليم الاجباري برمتها،.بهدف مطابقتها مع ما يسمى بنظرية « المقاربة عبر الكفايات ». مؤدى الأطروحة المدافع عنها هنا مسألتان: أولا: سوف تعجز تلك المقاربة عن الوفاء بوعودها التحررية. ثانيا: إن تلك المقاربة – التي لا شك ان منظريها تبنوها دون قصد - نتيجة بوجه خاص لسيرورة واسعة لجعل المدرسة أداة في خدمة اقتصاد ُمصر على مواصلة إلغاء التقنينات وخلق ثنائية اجتماعية. هناك من تعاريف مفهوم الكفايات بقدر ما ثمة من ُكتاب طرقوا الموضوع. ويشكل هذا في حد ذاته دليلا،إن استدعى الأمر، على المرونة القصوى لذلك المفهوم - و بالتالي طرق تطبيقه –. غير أن التعريف الأكثر تداولا في نصوص الجماعة الفرنسية هو تعريف رومانفيل ومن معه: « الكفاية مجموعة مندمجة ووظيفية من المعارف savoirs و المهارات savoir-faire والقدرات savoir-être والاتجاهات savoir-devenirبحيث أن الفرد عند مواجهته لمجموعة من الوضعيات، فإن الكفاية تمكنه من التكيف وحل مسائل و إنجاز مشاريع» [رومانفيل ومن معه] تسعى النظرية المسماة« المقاربة عبر الكفايات » أساسا إلى وضع الكفايات في مركز اهتمامات التعليم و ذلك بخلاف «تكديس المعارف» كما يشاع. لا يمكن اختزال تلك المقاربة في بيداغوجية معينة: إذ أنها تدمج بوضوح تصورا حول أهداف التعليم. لذلك السبب فهي جزء لا يتجزأ من مرسوم الجماعة الفرنسية حول «مهام التعليم الاجباري » .غير أن المقاربة عبر الكفايات تستلزم فضلا عن ذلك مقاربة بيداغوجية محددة،ما دامت توصي بمطابقة الممارسات التعليمية مع الهدف الجديد: لا يمكن إكتساب الكفاية، بما هي قدرة على حل مشاكل، سوى بوضع «المتعلم»- الفاعل بخلاف التلميذ المفترض أنه سلبي- «في وضعية» مواجهة مشاكل من صنف معين، حتى يتمرن على «تحريك» معارفه ومهاراته في مجموعة من الوضعيات الملموسة. إن لهذه المنهجية وجه شبه مع تلك المقترحة من طرف المدارس البيداغوجية للتيار البنائي، التي غالبا ما تلح بدورها على الدور الفعال للتلميذ وعلى ضرورة وضعه «في وضعية بحث» بفضل «ورشات مشاكل ». لكن سوف نرى فيما بعد أن التشابه يتوقف عند هذا الحد. مشروع صادر عن الأوساط الاقتصادية .لا يخفي مفكرو المقاربة عبر الكفايات الارتباط الوثيق بين نظريتهم والتحولات الجديدة لرغبات عالم الاقتصاد و خطاباته في مجال التعليم. هكذا يرى رومانفيل ومن معه أن « الجميع ينتظر من المدرسة ألا تكتفي بتلقين محتوى شكلي،لا يستجيب تماما لا لرغبات الشباب و لا لمتطلبات عالم الاقتصاد» [ رومانفيل ومن معه ]. ويعتبر Jean-Marie De Ketele جون ماري دي كاتل بدوره: «أن العالم الاجتماعي-الاقتصادي هو الذي حدد مفهوم الكفاية لأن الراشدين المتخرجين من المدرسة لم يستطيعوا بما فيه الكفاية ولوج الحياة المهنية» [دي كاتل2000]. أما بيرنو أحد أبرز منظري المقاربة عبر الكفايات، فيؤكد لنا طبعا : «قد يكون مخلا جعل إهتمام عالم التعليم بالكفايات مجرد مؤشر على تبعيته للسياسة الاقتصادية ». ويقر أن هناك« تضافرا بين حركة داخلية ونداء خارجي، يتغذى كلاهما من الشك في قدرة النظام التربوي على تمكين الأجيال الناشئة من مواجهة عالم اليوم و الغد » [پيرنو2000 ب] . ما هو إذا« عالم اليوم ؟ » هذا . يتميز محيطنا الاقتصادي بعنصرين اثنين : أولا تقلب بالغ و ثنائية اجتماعية قوية. ينجم التقلب عن احتدام الصراعات التنافسية وإعادة الهيكلة وإغلاق المصانع وترحيل وحدات الإنتاج، واللجوء المتسارع إلى اختراعات تكنولوجية زائلة أكثر فأكثر(سواء في مجال الإنتاج أو في مجال الاستهلاك). و في هذا السياق تتمثل إحدى أهم مساعي أرباب العمل في المرونة: أي مرونة سوق العمل و مرونة العامل المهنية و الاجتماعية و مرونة أنظمة التربية والتكوين و قابلية تكيف المستهلك. ما زالت سوق العمل حاليا منظمة بشكل قوي على أساس المؤهلات، أي على أساس الشواهد. وتمثل الشهادة جملة معارف ومهارات معترف بها ، تخضع لمفاوضات جماعية وتخول حقوقا بشأن الأجور و شروط العمل أو الحماية الإجتماعية. ولإتاحة دوران أكثر ليونة لليد العاملة، بات أرباب العمل يسعون لتدمير هذا الثنائي المتصلب: مؤهلات- شواهد، واستبداله بالثنائي كفايات- شواهد مبنية على وحدات تكوين (مصوغات أو مجزوءات)modulaire. وبيرنو واضح تماما بخصوص تلك المسألة، إذ يصرح:« إن إتخاذ الكفايات كمرجع يجيز إعادة تقويمها بشكل مستمرحسب "إعادة هيكلة آلة الانتاج" والتحول التكنولوجي و تنظيم قسمة العمل . وتتيح المقاربة عبر الكفايات في مجال العمل المأجور تدمير اشكال تضامن نظامية و تفريد المكافآت و المسارات المهنية في المقاولة، بالنسبة لأجراء ذوي مؤهلات شكلية متساوية. إنها تساهم في إعادة تركيب منطق المؤهلات داخل منطق التقويم-الإنتقاء « [پيرونو1999]. للأسف لا معنى لذلك التوضيح، لأننا هنا بالضبط إزاء مجال لا إستتباع فيه إطلاقا بين المقاربتين، أي بين المقاربة عبر الكفايات في التعليم التي يتبناها بيرنو والمقاربة عبر الكفايات المتعلقة بتنظيم سوق العمل التي يتبناها أرباب العمل. إذ بالإمكان حذف الشهادة دون تغيير المضامين و المناهج التعليمية، و يمكن كذلك بسهولة إعادة هيكلة قطاع التعليم على أساس الكفايات دون النيل من الشهادة. وبتركيز تماثلِ المقاربتين على هذه النقطة بالضبط، يكون بيرنو توفق في ادعاء أن الأمر لا يتعلق سوى بتماثل و ليس بارتباط وثيق. عمال مرنون وقابلون للتكيف
لا يتوقف السعي نحو المرونة على تنظيم سوق العمل. إذ يفضي عدم الاستقرار التكنولوجي و الصناعي، بما يخص العامل،إلى تحول محيط الإنتاج و مناصب العمل ، بل حتى المهنة، تحولا مستمرا. و لضمان إنتاجية دائمة لليد العاملة لا بد من توفر العامل هو أيضا على مرونة بالغة. وعليه إدماج الكفايات التي تتيح التكيف مع وضعيات جديدة، و اكتساب معارف جديدة خلال مساره المهني، وعليه أن يكون مستعدا لتوظيف نفسه لتلك الغاية. وباختصار يتوجب عليه أن يكون قادرا على تحريك معارف ومهارات وقدرات للتكيف و حل مسائل معقدة و متغيرة. والحال أن ذاك بالضبط ما تروم المقاربة عبر الكفايات تحقيقه في مجال التعليم: « على التلميذ أن يكون قادرا على تحريك مكاسبه التعليمية خارج المدرسة في وضعيات مختلفة ومعقدة و غير متوقعة » [پيرونو1995 ب]. لم يعد الأمر يتعلق هنا بتماثل، بل بتطابق حقيقي بين أهداف المقاربة عبر الكفايات و رغبات عالم الاقتصاد، تطابق نكتفي في الوقت الحاضر بملاحظته دون الحكم عليه. عندما يقر بيرونو بهذا التطابق، فإنه يفعل ذلك بشكل غير صريح، وبإفراغه من طابعه التاريخي و بلهجة ساحرة « لا يتجلى إفتنان عالم الاقتصاد بالكفايات فقط في الجانب المتعلق برفض المؤهلات () إذ يوجد في عالم المقاولات، ولو أن الأمر نابع من ضرورة مفهومة جيدا أكثر من نزعة إنسانية نبيلة، شكل من أشكال الاعتراف بالعمل المنجز واختلافه عن العمل الموصوف، و وعي بلزوم أن يبدي العمال الأقل تأهيلا ذكاء وإبداعا واستقلالا وإلا تمت المخاطرة بالإنتاج » [پيرونو2000أ]. و لكن « وعي» أرباب العمل لم تـُجد به السماء، بل نجم عن التحولات الاقتصادية التي وصفنها آنفا. وتفادي قول ذلك انما يعفي من تفسير التزامن التاريخي بين المقاربة عبر الكفايات و تلك التحولات الاقتصادية. إنه لمن اللباقة تعريف « الذكاء و الإبداع و الاستقلال الذاتي » بالكفايات التي عليها ضمان مرونة العمال وقابلية تكييفهم. إذ من قد يجرؤ على انكار كون دور المدرسة متمثل في حفز الشباب على الذكاء و الإبداع و الاستقلال الذاتي؟ لكن قول بيرنو هنا يعني الاكتفاء بلف النقاش الحقيقي بكلمات جوفاء. طبعا لا شك أن الفهم الذاتي لاستعمال منظومة توجيه طرقي معلوماتية و اتخاد القرارات الذكية بسرعة على أساس المعلومات المقدمة من هذه الحبكة المعلوماتية، قصد تجنب الازدحام لشحن موزع مشروبات كوكاكولا الآلي في ربوع مدينة كبيرة، يتطلب شكلا من أشكال الذكاء و الإبداع و الاستقلال الذاتي. لكن من يراد إقناعه أن الأمر يتعلق هنا بنفس أشكال الذكاء والإبداع والاستقلال الذاتي التي تتيح على سبيل المثال فهم عولمة هيمنة الأسواق على المجتمع ومحاربتها ؟ إضفاء الثنائية على سوق العمل و الحال أنه من المتوقع خلال العقد القادم أن تخلق الولايات المتحدة الأمريكية زهاء 300.000 فرصة عمل في شحن الموزعات الآلية للمشروبات والأغذية. وفي الحقيقة، ستكون % 56 من فرص العمل التي ستشهد أقوى تنام عددي في الولايات المتحدة الأمريكية في أفق 2008 من النوع الذي يتلقى المعنيون « تكوينا قصير المدة في مكان العمل». وهنا نلمس ثاني سمة كبيرة للمحيط الاقتصادي الحالي: ثنائية سوق العمل المؤدية طبعا إلى تنامي الطلب على اليد العاملة بالغة التأهيل، و لكن أيضا، وهنا المفارقة ، إلى اضفاء الطابع الجماهيري massificationعلى فرص العمل الهشة ذات مستوى تأهيل ضعيف للغاية. مذاك يصبح تأكيد بيرنو أن المقاربة عبر الكفايات « تستجيب لحرص على فعالية التعليم وملاءمة أكبر للتعلمات مع وضعيات الحياة في العمل وخارج العمل » [1995 بيرنو ب] مثيرا للتساؤل. إذ أن هذه «الملاءمة» تمر عند قسم عريض من السكان عبر كفايات ذات مستوى عال تستلزم معارف عامة تسمح لهم فعلا بتوظيفها كأداة للسلطة. لكن « الحرص على الفعالية» وعلى ملاءمة التعلمات « مع وضعيات الحياة في العمل» يستلزم ، عند قسم آخر أكثر عددا ، اختزال تلك التعلمات في كسب بعض الكفايات العامة المثمثلة في القراءة و الكتابة و الحساب و التواصل و استعمال لوح معلوماتي بسيط –وبعض الكفايات الاجتماعية مثل الإنضباط والاستقلال الذاتي و المرونة. ان ما تطالب به الأوساط الاقتصادية حاليا هو ترشيد التعليم وفق حاجاتها. ويتعين على هذا الترشيد أن يتيح تقليص كلفة التعليم ويضمن خلق تمايز أكبر ومرونة متنامية(للنظام التعليمي نفسه و لما ُينتج من يد عاملة على السواء).لكن لا شك ان ذلك ليس هدف المقاربة عبر الكفايات، على الأقل بنظر غالبية البيداغوجيين المدافعين عنها. غير أن السؤال المطروح هو : أ لن يتم إستغلال نواياهم الحسنة وتحريفها لصالح تلك الأهداف التجارية..يتعين إذا دراسة الطرق العملية لتنفيذ تلك النظرية، و تحليل إلى أي حد هي معرضة لذلك الاستغلال. التخلي عن المعارف يتمثل أول خطر ملازم للمقاربة عبر الكفايات في ما تؤدي إليه من انزلاق مركز الثقل من المعارف نحو معارف التنفيذ. ففي بيداغوجية المقاربة عبر الكفايات،لا ُينظر الى تشغيل التلاميذ في ورشات مشاكل بما هو طريقة (ضمن طرق أخرى) تمنح معنى للمعارف، و تتيح بناءها من طرف التلاميذ او بمعيتهم، و تضع تلك المعارف في سياقها التاريخي متيحة بذلك فهمها بعمق . بل أن المنهجية تغدو، في المقاربة عبر الكفايات، هدفا بحد ذاتها. ليس الهدف النهائي هو المعرفة بل المهارة. وهذا يميز جوهريا المقاربة عبر الكفايات عن إرث البيداغوجيين البنائيين برمتهم من فيغوتسكي Vigotsky مرورا بفرينيه Freinet ، وصولا إلى البيداغوجيين التقدميين في سنوات السبعينات(مثل بيداغوجيي GFEN بفرنسا ). إذ يضع هؤلاء الممارسة في خدمة اكتساب المعارف، وبوجه خاص التمكن من فهمها.أما المقاربة عبر الكفايات فتقوم بانقلاب كامل ،اذ باتت المعارف في خدمة المنهجية. .يقول بيرنو :« لا تشيح الكفايات بوجهها عن المعارف، لأنها غير قادرة على الاستغناء عنها، لكن يتعين بالمقابل قبول تلقين معارف أقل إن كان المراد فعلا تطوير الكفايات» [پيرونو1999].
بتغيير وضعها الاعتباري وبتحولها الى هدف لا مجرد وسيلة، تكتسي طريقة «ورشات-مشاكل» طابعا دوغمائيا. فلنستمع إلى پبرنو:« نتعلم المشي بممارسة المشي، و الغناء بممارسة الغناء. فلماذا تعلم التفكير و الملاحظة والتخيل و التواصل و التحليل والتفاوض بكيفية أخرى غير ممارسة تلك الأنشطة في أوضاع مختلفة اختلافا يتيح عدم ارتباط الكفاية بسياق ورهان وشركاء من طراز وحيد؟ »[پيرونو 1999]. طبعا ، نتعلم المشي بممارسته، لكن الامر لا ينطبق على الغناء ،بالاقل ان كان الهدف بلوغ مستوى راق. إذ لا بد من تعلم التنغيمات (اللحن المنغم) ، و دراسة الألحان الموسيقية والإستماع ، وكلها أنشطة تعلم أساسية ليست غناء . إن الفكرة التي مؤداها أن التعلم يتم أساسا عبر الممارسة خاطئة كليا فيما يخص المعارف المعقدة. لا يجري تعلم التكاملintégrales فقط باجراء حساب التكامل، بل باستيعاب نظري مسبق لمفاهيم من بينها الدالة و الحد وحساب التفاضل و الأوليات. و هنا يستلزم الفهم ذهابا وإيابا دائمين بين الممارسة(من أجل اكتشاف مفاهيم ومن اجل لتطوير كفايات ادواتية على السواء) و النظرية (من اجل المنهجة وبلوغ مستويات تجريد أعلى فاعلى).
تبرز تلك الدوغمائية البيداغوجية على نحو جلي في البرامج الجديدة التي تدرس حاليا في التعليم الفرنكفوني ببلجيكا.إذ تهيمن بها المقاربة عبر الكفايات بافراط إلى حد التخلي غالبا عن ادنى شرح متمفصل للمادة. يدافع پيرونو عن ذلك الانحراف و ويضفي عليه شرعية بقوله: «لايمكن التدريس بالكفايات مع العلم مسبقا في شهر غشت ما سيجري تناوله في شهر ديسمبر. فذلك سيكون وقفا على مستوى التلاميذ و مشاركتهم وعلى المشاريع التي ستتبلور، وعلى دينامية الجماعة-القسم أودينامية الجماعات الفرعية. و يتوقف ذلك بوجه خاص على الأحداث السابقة، لكون الوضعيات-المشكلات تسفر عن أخرى. ومن الممكن طبعا ،وحتى من الضروري بلا شك، وقف بعض المستتبعات و الانطلاق من جديد من نقطة أخرى. لكن لا يمكن استبعاد احتمال بناء السنة الدراسية برمتها خطوة خطوة ،حيث تؤدي مسألة الى أخرى ويوحي مشروع مكتمل بمغامرة اخرى. قد يبدو لفظ المغامرة أقوى من اللازم عندما يتعلق الأمر بمؤسسة بيروقراطية وإجبارية(اجتماعيا إن لم يكن قانونيا) مثل المدرسة. مع ذلك يتعلق الأمر بمغامرات فكرية، و اقدام على امور لا سابق علم بها عند أحد، ولا أحد، حتى الأستاذ، عاشها بنفس الكيفية تماما » [پيرونو 1995س]. انها عبارات لا بد أن تغوي كل من يكظم غيظه في مؤسساتنا المدرسية الثقيلة. إن المغامرة مغرية، لكن هل ينسينا ذلك ما قد تنطوي عليه من مخاطر؟ فإن كان البعض سيجد فيها ذاته ويستفيد منها، فإن آخرين يجازفون وقد يتيهون. كيف يمكن الا يدرك بيرنو أن الذين سيتوفقون هم من سيجدون بمكان آخر ما ستكف المدرسة عن إعطائه من صرامة و بناء للمعارف ؟ كيف لا يدرك الهوة الاجتماعية التي يعدها لنا على النحو شططه البيداغوجي؟ مقاربة خطيرة بسبب استحالة تحقيقها ربما يمكن الدفاع عن المقاربة عبر الكفايات عند دفعها حتى النهاية، وصولا الى رؤية بيرنو الُممثلنة. لكنها غير قابلة للتطبيق في الظروف الحالية لسير المدرسة و المجتمع، إذ أنها تضع هدفا مستحيلا ، و بناء عليه فإن(محاولة) تطبيقها ستفضي إلى نقيض الأهداف المرسومة رسميا. و في المقطع الطويل التالي يبين بيرنو وعيه التام باستحالة تطبيق ما يقترحه بالفعل إذ يقول «: ثمة عدة استراجيات . والمحافظة منها أكثر متمثلة في الانطلاق من المعارف المُدرسة حاليا و السعي الى تحديد ما قد يحركها من كفايات. وتلحق[تلك الاستراتجيات] بالمعارف النظرية لفظا من الفاظ الممارسة(مثلا"معرفة استعمال قاعدة أرخميدس")[و] تقتصر على تلفيف المحتويات المألوفة بحلي الكفايات،بلا تفكير في الجوهر» . »و ثمة استراتيجية ثانية، تقضي بترك المعارف للمواد الدراسية disciplines و تحديد كفايات "مستعرضةtransversales » . «أما الاستراتيجية الثالثة فتقضي بعرض قدرات عامة لدرجة تعذر معرفة ان كانت خاصة بمادة دراسية أم مستعرضة .لا شك أن التحليل والبرهنة و الاستدلال و الملاحظة و التعبير و والتفاوض قدرات مفيدة، لكنها تحيل إلى تنوع كبيرا من المهن و الممارسات والاوضاع » .و يستنتج پيرونو بقوله« تتبوأ تلك الإستراتيجيات الثلاث القابلة للنقاش مركز الصدارة في الإصلاحات الجديدة لبرامج التعليم باعتماد الكفايات. إنها في الوقت نفسه الاقل وعدا و الأكثر احتمالا ». فهل سيوصي بالتخلي حاليا عن تلك الاصلاحات الخطيرة؟ كلا. إنه يقترح الاندفاع نحو المجهول ،مع التنازل مسبقا بقوله :« هذه الطرق الحذرة في تناول المشاكل هي ربما الوحيدة القابلة للتطبيق، في مرحلة أولى» .الثنائية الاجتماعية للمدرسة والحال أنه في سياق تراجع تمويل التعليم، وزيادة عبء العمل، و اكتظاظ الأقسام، و زوال الحوافز لدى الأساتذة و التلاميذ، و تنامي الثنائية الاجتماعية، قد تتحول الدوغمائية البيداغوجية الى نزعة شكلية. و بقصد أو بدون، يجري إقناع المدرسين بفكرة كون المنهجية كل شيء و أن إكتساب المعارف يغدو ثانويا و تكميليا. ويرى بيرنو «أن الطريقة التي تروم بناء الكفايات تستلزم من الطالب مشاركة قوية إلى حد كبير في المهام. ليس حضورا بدنيا و عقليا فعليا مطلوبا من طرف باقي التلاميذ و المدرس على السواء فحسب، بل كذلك انخراطا يستلزم خيالا ومهارة و منطقا في الأفكار، الخ» [بيرنو 1995س]. و لكن اذا انعدمت تلك «المشاركة» و ذاك «الانخراط» قد تجانب الطريقة أهدافها. وآنذاك لا يبقى غير الترقيع البيداغوجي،المكلف وقتا وطاقة ، حيث يتعلم التلميذ أقل بمبرر تعلم افضل. وربما تفضي الطريقة عند التلاميذ الأكثر حفزا (في في مدارس أبناء النخبة الاجتماعية) إلى الحفاظ على المعارف مع تطوير القدرة على توظيفها. و لكن عند الآخرين ستراوح تلك المعارف المكان لصالح كفايات غامضة لا تستند سوى على أسس متينة ضئيلة. سوف يتعلم من سيشتغلون غذا في الأغذية الجاهزة كيفية التواصل مع الزبائن، و لكنهم لن يتعلموا الفرنسية و سيجهلون كل شيء عن الأدب. سيقدرون على إجراء عملية جمع دون أخطاء، لكن التجريد الرياضي سيظل غريبا عنهم. سيستطيعون تطبيق قانون أوم Ohm ، لكن لن يدركوا معنى المجال الكهربائي. و سيكون بإمكانهم ،بعد الاستعانة بوثيقة عمل، تحديد موقع الديناصورات في سلم زمني، لكن قد لا يصلهم شيئا على الإطلاق عن كارل ماركس. إن البرامج الجديدة،حيث المعارف المبنية مزاحة الى مرتبة ثانية خلف الكفايات و المنهجية، تفتح الباب لتأويل متمايز. فمدارس أبناء وبنات الجامعيين لن تسمع بتلك البرامج مثل مدارس أبناء وبنات الشعب. إن تأويل مستوى الكفايات المطلوب يتجاوز جردا للمادة القابلة للتنويع بلا حدود.إن اكتساب «التواصل» مهارة ذات مستوى رفيع، تستلزم «دمج موارد معرفية عديدة في معالجة اوضاع معقدة» [بيرنو1995ب]. انه اذن كفاية. و لكن التواصل لا يستلزم نفس المتطلبات إذا تعلق الأمر بمناقشة تأثير العولمة مع إطار في صندوق النقد الدولي أو تعلق باستفهام زبون« أتريد الهمبورغر بالبصل أو بالكتشوب؟» . كيف يمكن منع انحراف التعليم نحو تأويل ثنائي للكفايات باعتماد المصير الإجتماعي المفترض للأطفال معيارا،اي في النهاية معيار الاصل الاجتماعي؟ و هكذا قد تصبح المقاربة عبر الكفايات عنصرا إضافيا في سيرورة إضفاء الثنائية على التعليم و تعزيز الانتقاء الاجتماعي الخالق للتراتب والمغذى بإلغاء الضبط على كل الأصعدة.
المعرفة من أجل المعرفة أم المعرفة من أجل الفعل؟ أنا لا أرفض جعل المعارف أداة. على كل حال،ما الفائدة من التعلم إذا كانت المعرفة لا تجدي نفعا. فإذا كنت أولي المعارف أهمية كبيرة ، فليس لأني أربطها بقيمة ما، مثالية أو عاطفية، و لكن لأني أرى فيها وسيلة مهمة للفعل. فلا ممارسة فعالة بدون نظرية. إن المعارف تمنح القوة لفهم العالم، و من ثمة المساهمة في تغييره. إنها أداة سلطة. و هذا ما جعلها من جهة أخرى تظل في مركز انشغالات المدرسة طالما ظلت هذه الأخيرة حكرا على أطفال الطبقات الحاكمة. لم يكترث أحد أبدا، منذ 150 سنة،بمعرفة إن كان طلبة الاعداديات و الثانويات قد اكتسبوا « الكفايات لتحريك معارفهم في مشاكل معقدة و ومتعددة » . كان المهم هو تلقينهم المعارف ليمتلكوها كي يمارسوا بها عند الاقتضاء سلطتهم في مكانتهم بالمجتمع. والآن لما اصبح التعليم العام متاحا بشكل واسع لأبناء الطبقات الشعبية، جرى الانشغال فجأة بتحويل هذه المعارف إلى أداة. يتساءل بيرنو :« ماذا يحتاج الشباب لمواجهة القرن القادم؟ للمعارف دون شك. و لكن لمعارف حية، قابلة للتحريك في الحياة العملية و خارجها، و قابلة للتحويل، و نقلها، و تكييفها مع الظروف، و تقاسمها و اصلاحها. ولا تنشغل فكرة الكفايات باي شيء آخر سوى بجعل المعارف المدرسية أدوات للتفكير و للفعل » [پيرونو1999]. يا لها من شهامة ! لكن هل تتمثل المشكلة الرئيسية لدى غالبية الشباب خريجي المدرسة حاليا في إغراقهم بمعارف علمية و تاريخية و اجتماعية و تقنية و ثقافية دون معرفة كيفية استعمالها؟ أم أن المشكلة هي تخرجهم من المدرسة بالقليل جدا من المعارف ، وعدم قدرتهم على استعمال ذلك القليل بفعل نزع تأهيل مناصب العمل، بالأقل إذا كان المقصود معرفة حقيقية أي تلك المصحوبة بفهم عميق. يعبر ذلك طبعا عن فشل التعليم. لكن لا ينبغي البحث عن السبب في أهداف التعليم المعلنة (نقل المعارف). إن السبب متمثل في ضعف الممارسات، و في غياب الوسائل و الشروط المادية لتحقيق تلك الممارسات ، علما انه لا يمكن فصل كلا المظهرين.
خاتمة : تبدو أهداف أنصار المقاربة عبر الكفايات نبيلة. لكنها مستحيلة التحقيق في الشروط الحالية للتعليم. فإعادة توجيه الأهداف نحو «تحريك» المعارف، بدلا من اكتساب هذه المعارف، يفضي إلى دوغمائية بيداغوجية. يحدث في الواقع انقلاب الأهداف والوسائل: ما عادت المنهجية- تشغيل التلاميذ في ورشات مشاكل- أداة في خدمة اكتساب المعارف وفهمها ، بل يجري انزال المعارف الى مرتبة أداة من أدوات المنهجية. ويبلغ نزع تأهيل المعارف هذا حد التخلي عن تمفصل مواد التدريس عند وضع البرامج. على هذا النحو تندرج المقاربة عبر الكفايات، أيا كان نبل نواياها، في حركة واسعة من تفكيك التعليم واضفاء الثنائية عليه ، طالما نادت بها الأوساط الاقتصادية. و بحجة المرونة، تسند هذه الأوساط للتعليم مهمة تلقين الكفايات المستعرضة التي تضمن قدرة العمال على التكيف مع محيط اقتصادي وتكنولوجي متحول باستمرار. و من جهة أخرى، تشجع سياسة نزع الضبط(التفكيك) الناجمة عن« الغموض الفني » المميز للأهداف المعرفية في البرامج الجديدة، التطور الثنائي للتعليم. ويستجيب هذا الاخير لـ«حاجة» أخرى لدى الاقتصاد: حاجة تكييف التعليم مع التحول الثنائي لسوق العمل .

ترجمة : كفاح نقابي

0 التعليقات: